كان ابن أختي يعشق كعادة الأطفال أفلام الكارتون، وحين كان في سن صغيرة لا تعي أحداث الفيلم وإنما تتابع عيونه الصغيرة ما يدور على الشاشة من تتابع الألوان وصراع الحيوانات والأشخاص كان يجد في ذلك متعة كبيرة؛ لذلك كنا نتركه أحياناً بمفرده مع الكارتون لنقوم بما علينا من مهام، لكنه كبر الآن وصار يميز الحركات ويتابع الأحداث، ويبدو من تعبيرات وجهه أنه يفهم ما يدور أمامه لذا كان واجباً أن أجلس أشاهد معه الكارتون كيلا يتسرب سلوك خاطئ إليه دون داع.. وكانت من أمتع اللحظات هي تلك التي يشاهد فيها الكارتون الكلاسيكي و" توم وجيري" حيث إني صرت أحفظ ميعاد عرضه وصرت أنا التي أنبهه حين يكون مشغولاً باللعب كي يتابعه فأجدها حجة لمتابعته معه!..
لفت نظري أحد الأفلام وانتبهت حينها لمتابعة قصة الفيلم التي تذكرتها والتي كنت أشاهدها كثيراً في طفولتي لكني فهمتها بطريقة أخرى الآن.. كانت قصة مختلفة لا تدور حول مضايقات الفأر للقط كما هو معتاد بل عن محاولات "جيري" أن يعلم قريبه الصغير كيف يحتال على القط، وكل مرة يأتي له بفصل من الكتاب ليعلمه خدعة جديدة للقط المسكين.. لكن الفأر الصغير كان مصراً على حسن معاملة القط رغم كل العقاب الذي كان ينهال عليه من "جيري" وإصراره على تعليمه أن القط عدو وينبغي عليه أن يعاديه ويقوم معه بالمقالب ولكن الفأر الصغير البريء كان يصر على رأيه فتارة يعلمه كيف يسرق الجبن من القط مع مغامرات طويلة فإذ بالصغير يتوجه بأدب إلى القط ليطلب منه قطعة الجبن بأدب! وتارة يعلمه ربط الجرس حول رقبة القط ليضايقه وبعد أن يضرب القط "جيري" علقة ساخنة يتوجه الفأر الصغير بكل ذوق إلى القط ليقدم له الجرس هدية فيقبلها منه في سعادة ويرتديها بفرح!.. هنا استسلم "جيري" وقد تحول إلى تلميذ لدى قريبه الصغير الذي بدأ يعلمه كيف يكون الفأر والقط أصدقاء مع موافقة "توم" وفرحه بالجرس الهدية!
انتهى الفيلم، فجلست أتأمله طويلاً معجبة بهذة الفكرة التي نستطيع أن نفهمها على عدة مستويات.. فالطفل يفهم أن الصداقة أفضل من العداوة وعليه تكوين صداقات وهكذا ولكني أرى أنها تحمل بعداً آخر خفي فهو نوع من التمرد على المسلمات والثوابت التي نتلقاها ويلقنونها لنا دون أن نقتنع بها ونجبر على مسايرتها دون إرادة منا.. فالفأر الصغير لم يستسلم لما يريد الكبير أن يغرزه بداخله من عداوة تجاه القط ورفض الانصياع وراء المنبع وهو لا يرى فائدة من هذا الاستعداء طالما يستطيع العيش بصورة طبيعية مع القط دون مضايقة متبادلة.. وأجد ذلك رائعا.. بل مذهلا.. فهناك حقا الكثير من التقاليد المجتمعية التي نسير وفقها دون أن نتمهل قليلاً ونفكر في جدوى ما نفعل وفي صواب ما نتبعه من تقاليد وأعراف حتى لو كانت تعود لمئات السنين واتبعها أجدادنا وآباؤنا وصار لزاما أن نسير وفقها نحن أيضا.. هي أحيانا تكون عادات سيئة كسرادقات العزاء وما يحدث فيها من تباهٍ نهى عنه الدين في موقف مهيب لا مكان فيه للتفاخر ولا التباهي بكبر حجم السرادق ومن جيءَ به ليتلو القرآن..
وليس بالضرورة أن تكون العادات المتوارثة سيئة بل حتى لو كانت عادة لا سوء فيها لكنك غير مقتنع بها فعلينا ألا نستسلم لها ونتبع نهج الآباء صاغرين كيلا نغضبهم وكيلا نشذ عن الجميع.. وعلى نفس المنوال قد تجد في بعض العائلات عداوات وكراهية تنتقل من الجيل الذي أوجدها إلى الجيل الذي يليه إلى أجيال كثيرة بعدهم لم تشهد سبب العداء ولا ذنب لهم فيها لكنها تواراثت الكراهية وصارت في ثقافتها وموروثاتها ولذلك كان لزاماً أن يظل أفراده يكرهون بعضهم البعض وفاء لتلك الذكرى السيئة!
وإذا فكرت في سبب هذا العداء ستجده تافهاً ولو حاولت الصلح لوجدته أسهل وأفضل ولندمت على ما أضعته من وقت في الكراهية التي لا مبرر لها.. وهذا الأمر لا ينطبق على "توم وجيري" فالقط والفأر أعداء بالغريزة دون تدخل الأجيال! وينبغي عليهما العودة لمشاكساتهما وإلا ستفلس الشركة المنتجة ولن نجد ما نشاهده من كارتون ممتع!
فيجب علينا أن نتفكر في كل خطوة نخطوها ونعقلها كيلا تصير حياتنا نتيجة مكررة من حياة السابقين، وكيلا نحمل على ظهورنا أحمالاً صنعها الآخرون دون ذنب لنا فيها سوى أننا لم نستخدم عقلنا، وقررنا السير وراء الموروث والثوابت دون تفكير في صحتها وملائمتها لنا، وأن نجد في أنفسنا الشجاعة قدوة بذلك الفأر الصغير البريء الذكي لنتمرد على ما لا نحب وعلى المتبع والسائد إن كان لا يناسبنا، ونرى فيه ضرراً لنا حتى لو قوبل ذلك باستهجان الجميع وانتقادهم لأن المجتمع إذا اعتاد على شيء أدمنه، وصار شبه مستحيل التخلي عنه، وأصبح لديه بمثابة الدين لا يجوز الإشارة له ولا حتى التفكير في مدى صحته..
فيجب أن نعيد التفكير في أفعالنا، ونتفكر فيما نقوم به وقناعاتنا التي غرسها المجتمع فينا، ونرى إن كانت تتماشى مع ثقافتنا وتعاليم ديننا وفطرتنا السليمة.. فإن لم تكن كذلك علينا أن نكون حازمين لنخرج عن القطيع كيلا نتحول إلى مجرد رأس من الماشية التي يقودها راعٍ لا يفقه شيئاً!
وختاماً أكن إعجابي لذلك الفأر الصغير الذكي.. ولنا في "توم وجيري" خير عظة!