المحكمة الجنائية الدولية تحاول تكريس سوابق قانونية دولية لا محل لها من الإعراب في القانون الدولي الجنائي.
ميدل ايست اونلاين
من مفارقات العدالة التي تقودها المحكمة الجنائية الدولية بحق السودان ورئيسها عمر حسن البشير، أنها تحاول تكريس سوابق قانونية دولية لا محل لها من الإعراب في القانون الدولي الجنائي، إذ يبدو أنها محاولة لتكريس ازدواجية في التعامل مع قضايا تبدو في ظاهرها متشابهة رغم أن وقائعها ونتائجها مختلفة.
ففي سابقة في العلاقات الدولية والقانون الدولي، وفي إحدى اخطر التعديات الخارجية على السودان واستقلاله وسيادته واستقراره السياسي، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو ـ أوكامبو، توجيه أول مذكرة توقيف دولية ضد رئيس دولة السودان عمر حسن البشير، ذلك بعد ستة أعــوام على تأسيسـها، وأربعة ملفات فتحتها ولم تغلق أياً منها ، و12 متهماً لم تتمــكن من اعتقال نصفهم، ما يطرح سابقــة مثــيرة للجدل لا تتوقف عند حدود القانون. فما هي ابرز القواعد القانونية الواردة في النظام الأساسي للمحكمة وبالتالي هل تنطبق على الحالة السودانية ورئيسها؟ وماذا في الخلفيات القانونية وأبعادها السياسية؟وما هي نتائجها وآثارها على العدالة الدولية المفترضة؟
تنص المادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة على أن للمحكمة اختصاصا في محاكمة من يرتكبون الجرائم التالية :
أ- جريمة الإبادة الجماعية (تنص المادة 6 في هذا الصدد على انه يدخل في جريمة الإبادة الجماعية قتل أعضاء جماعة ما ، أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي شديد بأعضاء جماعة ما ،...الخ).
ب) الجرائم ضد الإنسانية (وتشير المادة 7 في هذا الصدد على أمثلة كالقتل والتعذيب، الإبادة، الاستعباد، الاغتصاب، الاستعباد الجنسي....الخ).
جـ - جرائم الحرب (ووفقا للمادة 8: تتمثل تلك الجرائم في : الخرق الخطير لاتفاقية جنيف 1949، الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف المطبقة في الصراع الدولي المسلح متضمنة نقل الدولة المحتلة لأجزاء من سكانها المدنيين إلى إقليم الدولة التي تحتلها ، الهجمات المباشرة ضد التراث الثقافي، ...الخ). وتشمل جرائم الحرب أيضا الصراعات المسلحة التي يقوم بها شخص غير دولي (وفقا للمادة 3 من اتفاقية جنيف لعام 1949، بروتوكول جنيف الثاني لعام 1977).
د- جريمة العدوان. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المحكمة يجب أن تمارس اختصاصاً حول جريمة العدوان بمجرد تبنى الفقرة التي تعرف الجريمة وتفرض الشروط التي في ظلها تمارس المحكمة اختصاصها فيها فيما يتعلق بهذه الجريمة (المادة 5 ، فقرة 2).
2- تمارس المحكمة اختصاصها وفقا للمادة 11، فيما يتعلق فقط بالجرائم التي ترتكب بعد دخول النظام الأساسي للمحكمة حيز التنفيذ)، إذا ما حدث موقف ارتكبت فيه جريمة أو أكثر من الجرائم المذكورة، وذلك بأن يحال ذلك الموقف إلى المدعي بواسطة طرف رسمي أو مجلس الأمن. وبالإضافة إلى ذلك ، قد يبادر المدعي نفسه بإجراء تحقيقات على أساس المعلومات المتوافرة عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة. ولن يتم البدء أو الشروع في تحقيق أو ادعاء لمدة 12 شهراً بعد أن يطلب مجلس الأمن من المحكمة القيام بذلك. وذلك في قرار يتبناه المجلس في ظل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
3- وإذا ما أصبحت الدولة طرفاً في هذا النظام الأساسي، يمكنها أن تعلن عدم قبولها اختصاص المحكمة فيما يتعلق بفئة جرائم الحرب عندما يتم الادعاء بأن مواطنيها قد ارتكبوا جريمة ما أو ارتكبت الجريمة على أرضها ، وذلك في خلال فترة 7 أعوام بعد دخول النظام الأساسي حيز التنفيذ بالنسبة للدولة المعنية.
كما أن النظام الأساسي للمحكمة أظهر أوجه سلبية لسير عمل المحكمة منها:
1 - أضافت المادة 16 منه أداة وظيفية قضائية إلى مجلس الأمن، فأناطت بمجلس الأمن حق الإحالة والتدخل والتوجيه وحتى التعطيل الكامل لأجهزة المحكمة ومنحت المادة 87 في فقرتها 5 و6 و7 مجلس الأمن سلطة تنفيذية لإلقاء القبض على متهم أو مشبوه نيابة عن المحكمة!
2 - منحت المواد 17 و18 و20 من نظام المحكمة، المحكمة الجنائية الدولية صفة او امتياز المحكمة العليا على المحاكم الجنائية الوطنية تراقب أعمالها وتشرف على أحكامها بل أنيط بها سحب الدعوى منها بالنصوص من ناحية وبقوة قواعدها الدولية التي تسمو على القواعد الوطنية.
3 - تُنصّب مواد النظام مدعي عام المحكمة كمدع عام مطلق الصلاحيات تعمل بإمرته وتوجيهاته وإشرافه جميع سلطات الادعاء العام الوطنية، فهو يمنحها حق العمل أو يسحب منها دورها الوطني!
وبصرف النظر عن الاتهامات التي وجهها مدعي عام المحكمة لويس مورينو ـ أوكامبو لأول مرة إلى رئيس في منصبه، طالباً إصدار مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير تمهيداً لمحاكمته، وبمعزل عن خطورة التهمة ـ البشير متهم بأنه الرأس المدبّر لإبادة جماعية منظمة في إقليم دارفور ـ تفترض الضرورة الموضوعية الإضاءة على نقاط قانونية هامة منها:
- إن قرار المدعي العام يوجه ضد مواطن يتبع لدولة لم توقع على اتفاقية روما 2002 لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 12 من اتفاقية روما بعدم صلاحية المحكمة تجاه المواطنين الذين يتبعون إلى دولة لم تصادق على الاتفاقية.
- إن صلاحية المحكمة الدولية بحد ذاتها هي في غير محلها، فملف دارفور موضوع الاتهام كان قد أحيل إليها من مجلس الأمن في العام 2005 بالقرار 1593 في وقت تفرض فيه اتفاقية روما أن تكون أي إحالة من هذا النوع قائمة على قضية تهدد السلم والأمن الدوليين، أي قضية نزاع دولي وهي ليست حال دارفور، وألا فلماذا لا تقحم المحكمة الدولية نفسها في كشمير والشيشان ومجازر إسرائيل في لبنان؟
- إن كلاما سابقا للمدعي العام، في شباط العام 2007، اتهم فيه الوزير السوداني أحمد هارون وأحد قادة ميليشيا الجنجويد علي كوشيب، بأنهما المسؤولان الأكبران عن كل جرائم دارفور بين عامي 2003 و2005 فكيف تغيّر الحال إلى توصيف الرئيس البشير بأنه هو المسؤول الأكبر عن جرائم دارفور منذ العام 2003؟
- لو سلمنا جدلا أن العضوية في اتفاقية روما ليست شرطاً أو مانعاً لتطبيق بنودها، فلماذا والحال كذلك لا تطبَّق على الجنود الاميركيين والإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم حرب في العراق وفلسطين ولبنان، والتي أعلنت الولايات المتحدة وإسرائيل رفضهما المصادقة عليها؟
وإذا كان الجانب القانوني لا ينطبق على حالة الرئيس عمر البشير فما هي الخلفية السياسية للقضية؟
المسألة الأولى تتعلق بشخص البشير بالذات، فهو واحد من قلّة من الزعماء العرب والمسلمين، ممّن تحوّل في السودان من رجل عسكري إلى رجل دولة سياسي ، واستطاع التحرّك على طريق مليئة بالألغام داخليا وإقليميا ودوليا، بهدف إقرار السلام في بلده رغم العقبات، محافظا على استقلاليته من التبعات الأجنبية رغم التهديد والإغراء، ويكاد يكون الوحيد الذي لم تستدرجه مواقف عدائية في أحرج الظروف كالمشاركة في حصار عدائي أجنبي.
المسألة الثانية وتتعلق بالسودان، فمع فلسطين والعراق، أصبح السودان من بين الدول العربية الدولة الأولى المستهدفة عالميا بأقصى درجات الضغوط، لتفتيته وتقسيمه، وإضعافه أمنيا، والحيلولة دون نهوضه اقتصاديا واستقراره سياسيا.
إن أولى التداعيات ستكون على الوضع في دارفور تحديدا وبدلا من أن تكون سياق المسالة بداية حل، فستكون بداية لتفجير أوسع وأكبر،أما الضحية الثانية فستكون قوات السلام الأفريقية والدولية ما يعني أن جولة من الفوضى قادمة على السودان من الصعب أن تنحصر فيه.
ربما قدر العرب أن يبقوا الأوائل في تسجيل السوابق من كافة الأنواع، اليوم عمر البشير عبر المحكمة الجنائية الدولية، وقبله صدام حسين عبر محكمة جنائية عراقية خاصة، وربما غدا رئيس آخر عبر محكمة مختلطة، فإلى أين تسير العدالة الدولية ومحاكمها؟ وهل بات من صدقية يحتذى بها؟ إنها أسئلة محيرة تبحث عن أجوبة في عقول الشعوب العربية قبل حكامها!